كلمة سموّ الأميرة ريم علي في المؤتمر الإقليمي الأول "منارات"

Image: 
21 أيلول 2021

أصحاب السعادة،

مُنظّمو المؤتمر،

السادة الزملاء المشاركون،

 

في كثير من الأحيان، تُستخدَم كلمة "المتاهة" لتصف حقًا ما يحدث على وسائل التواصل الاجتماعيّ، أو أي وسائط على المنصّات الرقمية. ويعود استخدامها إلى ما حدث لأليس - بطلة قصة أليس في بلاد العجائب - التي سقطت في حفرة أرنب قادتها إلى مغامرات في أماكن مُسليّة - غالبًا ما كانت مظلمة - وكلّها من وحي خيال المؤلف، ولكنها ليست ذات علاقة بالمكان الذي بدأت منه. أعتقد أنها الكلمة المثاليّة لوصف ما يُنظر إليه اليوم على أنه "معلومات". إنّ عمليّة البحث عن أخبار أو معلومات - كالإجابة على أسئلة مثل هل الماء الذي نشربه آمن؟ وهل إرسال الأطفال غير المطعّمين إلى المدارس آمن؟ وكيف يمكن أن تؤثر التغيّرات المناخية على كوكبنا؟ – كلها يجب أن تلقى مردودًا دقيقًا تمامًا يستند إلى حقائق. ومع ذلك، فغالبًا ما تقودنا هذه العمليّة إلى متاهة من الآراء وعكسها، بالإضافة إلى "الأخبار الزائفة"، والتي تجعل من المستحيل على أكثر القرّاء أو مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي تعلّمًا حلّ هذا اللغز والتفرقة بين الحقيقة والخيال أو تحديد ما إذا كان ذلك من باب الدعاية.

أرجو ألا يُفسَّر كلامي بشكلٍ خاطئ! فقد تكون هذه المتاهة مصدرًا لبعض المعلومات المسليّة والمتنوّعة والمفيدة، والتي جعلت أطفالنا اليوم أكثر دراية بمجموعة متنوّعة من الموضوعات عما كنّا عليه في مثلِ سِنّهم. تلك هي المشكلة أيضًا! كيف نحصل على هذه المعلومات المفيدة؟ وكيف نعرف أنّ أيًا منها مفيد وأيًا منها دون ذلك؟ وكيف نميّز بين ما هو آمن، وما هو موثوق، وما هو دون ذلك؟

ثمّةَ أزمة انعدام ثقة في المعلومات الرقميّة على الرغم من كمّها الهائل. وفي ظلّ غياب القيود التي تحول دون الوصول إلى هذه المعلومات، تتزايد باستمرار أعداد الجماهير حول العالم التي تتلقى محتوًى مجهول المصدر يخدم مختلف الاهتمامات والنوايا.

وقد أدّت التطورات التكنولوجية الحديثة على مدار السنين للوصول باستمرار ومن دون أي عراقيل إلى مصادر معلومات متنقلّة أو "معلومات سريعة جاهزة" - لو أردتم الحصول عليها - لتصنع مجتمعًا مدنيًا يعجّ بالصخب الرقميّ. ومن ثمّ، غدت الحاجة ماسّة إلى توفير نوع من التربية والدراية الإعلاميّة والمعلوماتيّة جنبًا إلى جنب مع الاعتماد المتزايد على هذا التدفق الهائل والسلس وغير التقليدي من المحتوى الذي ينتشر في حياتنا اليوميّة ويواصل استحواذه على جزء كبير منها بغرض النفع، في كثير من الأحيان، وليس دائمًا.

ويمثل التواصل على المنصّات الرقميّة تحديًا كبيرًا؛ فهو يتطلب توفير الأدوات والتدريبات اللازمة للشباب الذين يستخدمون هذا المحتوى اللامتناهي، على ما يبدو، ويصنعونه.

وقد أخذ معهد الإعلام الأردني على عاتقه مهمّة تطوير الكفاءات الأردنيّة بهدف تكوين مجتمع رقميّ أكثر تميزًا يتمتع بمهارات التفكير النقديّ من أجل الإبحار في سيل متواصل من المحتوى الإخباريّ والمعلوماتيّ على مدار 24 ساعة.

اسمحوا لي أن أشارككم عرض مقطع فيديو قصير عن أحد مشروعات التربية الإعلاميّة والمعلوماتيّة للمراهقين، والذي نُفِّذ بالتعاون مع شركة البثّ العام الأمريكي بدعم من مؤسسة كارنيغي. (إدراج مقطع فيديو مدته من 30 إلى 40 ثانية).

أطلق معهد الإعلام الأردني رحلة التربية الإعلاميّة والمعلوماتيّة في عام 2013. وفي تلك الآونة، شارك خيرة طلاب ماجستير الصحافة والإعلام الجديد في برنامج "أكاديمية سالزبورغ للإعلام والتغيير العالمي" الذي ينُظَّم سنويًا في النمسا، والذي كان يسلّط الضوء على التربية الإعلاميّة. ومنذ ذلك الحين، وعلى مدى السنوات التالية، وقبل توقّف هذه الأنشطة بسبب انتشار وباء كورونا، استفاد معهد الإعلام الأردنيّ من هذا الاهتمام والزخم، كما أتيحت له الفرصة، سنويّاً، لإرسال العشرات من طلاب الماجستير والموظفين إلى أكاديميّة التربية الإعلاميّة والرقميّة في لبنان.

وتطوّرت الدورات التدريبيّة في مجال التربية الإعلاميّة والمعلوماتيّة، واتخذت منعطفًا ملموسًا بشكل أكبر مع مشروع التربية الإعلاميّة والمعلوماتيّة التابع لليونسكو، والذي كُلِّف معهد الإعلام الأردني بتنفيذه بدعم من الاتحاد الأوروبي. كان هذا المشروع هو الأوّل من نوعه الذي يتم تنفيذه على نطاق وطنيّ في الأردن: فقد شمل العديد من القطاعات على مدار عام ونصف، وركّز على إشراك صانعي القرار والمجتمع الأكاديميّ في التدرب على مهارات التربية الإعلاميّة والمعلوماتيّة وقدراتها، وإتاحتها لجميع المواطنين. وقد شمل أيضًا تدريب نحو 24 مدرسًا من ثماني مدارس حكوميّة، الذين أسّسوا بدورهم أندية التربية الإعلاميّة والمعلوماتيّة في تلك المدارس، فضلاً عن قيام مدربي التربية الإعلاميّة والمعلوماتيّة بالمعهد بتدريب أكثر من 120 طالبًا من الصف السابع إلى التاسع بما فيهم اللاجئين السوريّين.

وعلاوةً على ذلك، أعدّ فريق معهد الإعلام الأردنيّ أوّل منهج دراسيّ في التربية الإعلاميّة والمعلوماتيّة باللغة العربيّة للمعلمين، إضافة إلى الكتب الجامعيّة، ومواد التدريب، ووثيقة السياسة العامة لإرشاد صانعي القرار ودعوتهم إلى دمج التربية الإعلاميّة والمعلوماتيّة في مناهج المدارس والجامعات. وقد حظي المعهد بتأييد وزارة التعليم العالي لهذا المشروع؛ ممّا شجّع الجامعات الأردنيّة على دمج التربية الإعلاميّة والمعلوماتيّة في الخطط الدراسية لكليّات التربية، والتي شملت أيضًا جامعة آل البيت. وقد أسهمت كلّ هذه الجهود في حصول معهد الإعلام الأردني على تقديرٍ رفيع المستوى من منظمة "اليونسكو" والتحالف العالميّ للشراكة من أجل التربية الإعلاميّة والمعلوماتيّة لعام 2018، من خلال منح المعهد جائزة "التحالف العالميّة"، لتميّزه والتزامه بنشر مفاهيم التربية الإعلاميّة والمعلوماتيّة ومهاراتها.

وقد لاقى هذا المشروع استحساناً لافتاً للنظر من المدرّسين وطلاب المدارس والجامعات. وكان من المطمئن جدًا أن نرى مدى تمكّنهم، ومدى الإضافة التي تحقّقت إلى مهاراتهم المعرفيّة، والتي سمحت لهم بتصفّح مواقع التواصل الاجتماعي من خلال منظور نقديّ جديد – وكانت هذه إحدى الخدمات البارزة التي تمكّن المعهد من تقديمها إلى وطننا الحبيب.

وللتأكد من نشر البرنامج في بقيّة أنحاء المملكة، عمل المعهد في عام 2018 على صياغة إطار استراتيجيّ لإدراج التربية الإعلاميّة والمعلوماتيّة على نطاق وطنيّ، مستهدفًا أربعة قطاعات، وهي: المدارس، والجامعات والكليّات، ومنظمات المجتمع المدني، بالإضافة إلى الشباب ومراكز الشباب. وقد اعتمدت الحكومة هذا الإطار الاستراتيجي وخطّته التنفيذيّة (من 2019 إلى 2022)، وشكّلت بدورها فريقًا وطنيًا من أصحاب المصلحة للإشراف على تنفيذ هذا المشروع الطموح الذي يمتد لثلاث سنوات، ويشارك معهد الإعلام الأردنيّ الحكومة في تنفيذه.

وقد حرِصَ المعهد على تطوير منصّة التربية الإعلاميّة والمعلوماتيّة من خلال شراكته الاستراتيجية مع أكاديمية DW للدراسات الدوليّة في الإعلام لتعزيز كفاءة المؤسّسات التعليميّة ومُعلّمي المدارس الحكوميّة وطلبتها في مجال التربية الإعلاميّة والمعلوماتيّة وفقًا للمبادرة الوطنيّة وخطّتها التنفيذيّة للأعوام (2020-2023). وقد درّب برنامج التربية الإعلاميّة والمعلوماتيّة في الأردن نحو 240 مدرسًا عبر 12 محافظة على مهارات التربية الإعلاميّة والمعلوماتيّة ومفاهيمها، مع الإفادة من محتوى كتيّبات التدريب المُعدّة خصيصًا لغايات تدريب المعلّمين والطلبة. وفي العام الجاري 2021، وكجزء من هذا البرنامج، يواصل المعهد تنظيم ورش العمل التدريبيّة لنحو 90 معلمًا في مجال التربية الإعلاميّة والمعلوماتيّة في جميع أنحاء الأردن.

وعلاوةً على ذلك، أعدّ معهد الإعلام الأردني ورش عمل تدريبيّة لمنظمات المجتمع المدنيّ، والصحفيين، والمؤسّسات الإعلاميّة لتعزيز عمليّة دعم الحقوق والحريّات في الأردن من خلال التربية الإعلاميّة، وتمكين كوادر أكثر فطنة من صانعي المحتوى الإعلاميّ ومستخدميه.

ولكن ما زال الطريق طويلاً، وما زال هناك الكثير لنفعله.

لقد أدّى انتشار وسائل التواصل الاجتماعيّ وسهولة الوصول إلى المحتوى الإعلاميّ الرقميّ بشكل مستمرّ إلى ظهور صحافة المواطن، التي مكّنت الأصوات من مختلف فئات المجتمع من التحدّث والمشاركة عبر منصّات تخطت جميع الحواجز الماديّة. وقد سلّط هذا الطابع الديمقراطي الذي تتّسم به هذه الوسائل الضوء على أهميّة التربية الإعلاميّة والمعلوماتيّة ودورها الحيويّ في ظل استمرار تدفّق المعلومات بلا هوادة، سواءً الصحيحة منها أم الخاطئة. وبينما يعمل الصحفيّون المحترفون الذين يُضرَب بهم المثل في إعداد التقارير الاستقصائيّة باستخدام الحقائق والبيانات، نرى جميعًا كيف أصبح المشهد الرقميّ في المقابل مصدرًا للمعلومات غير الموثوقة، والتي ربما تكون جزءًا من عمليّات التضليل الدعائيّ التي تخدم أجندات بعينها، ممّا يؤدي إلى ظهور ما يُعرَف ب "نظريّات المؤامرة"، والأخبار المكذوبة، والزيف العميق!

وعلى سبيل المثال، كشفت جائحة فيروس "كورونا" المستجدّ عن الآثار السلبيّة للنشر المتعمّد للمعلومات الخاطئة أو المضلّلة على الصحّة العامّة. وفي الغالب، لا يكون متلقّي هذه المعلومات على دراية بما ينتج عن استخدام هذا المحتوى الذي يهدف إلى التضليل ونشر الأكاذيب.

وأصبح الإبلاغ عن المعلومات المضلِّلة أيضًا أداة مهمّة جدًا في هذا الصدد: في الأسبوع الماضي ظهر خبر في "هافينغتون بوست" يكشف كيف تمّ توظيف بعض المراهقين لنشر نظريّات المؤامرة اليمينيّة المتطرّفة بما في ذلك الدعاية المضادة للقاحات وإدارة الإعلانات لصالح حملة ترامب "صندوق الدفاع عن الانتخابات". ولقد علمنا بهذه الواقعة من خلال البحث والإبلاغ عنها. ولكن.. كَمْ من أمثال هذه الوقائع تحدث في دول أخرى ولا يُبلَّغ عنها؟ فهناك الكثير ممّا يمكن أن تفعله التحقيقات الاستقصائيّة المناسبة لتسليط الضوء على تحريف هذه الأخبار. ويُعدّ الاعتماد على الوعي المناسب وإعطاء الشباب الأدوات اللازمة لتمييز الحقائق من الآراء، والصواب من الخطأ، هو أفضل الطرق لمواجهة الأمراض الاجتماعيّة مثل الإساءة، وخطاب الكراهية، وجميع أشكال التمييز والتضليل، التي تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي.

توفّر عمليّة التدريب على التربية الإعلاميّة والمعلوماتيّة سبلًا لزيادة الوعي حول مجموعة متنوّعة من القضايا التي يمكن أن تساعد شبابنا أثناء مواجهتم لمواقف محدّدة في كلّ مجتمع من مجتمعاتنا على حدة. ولهذا السبب نفّذ معهد الإعلام الأردني أيضًا برامج لمكافحة التنمّر، وخطاب الكراهية، والتطرّف وآثاره المحتمَلَة على الشباب/المستخدمين الذين يفتقرون إلى الخبرة، وكذلك العنف القائم على النوع الاجتماعيّ، وغيرها. لذا، أصبح التدريب على مهارات التفكير النقديّ هو الحلّ.

بينما تُواصل منصّات الإعلام الاجتماعيّ الكفاح من أجل الحفاظ على قوّتها، والتي تنطوي على جوانب أخرى مثل المعلومات التي تُنشَر عبر مستخدميها، نثق بأنّ التدرّب على التربية الإعلاميّة والمعلوماتيّة، وصقل مهارات التفكير النقديّ ما زالت هدفًا استراتيجيًا يسعى معهد الإعلام الأردنيّ إلى تحقيقه، ومهمّة يعمل على إنجازها عبر الشراكات الإقليميّة والدوليّة.

يمكننا العمل بشكل أكثر كفاءة لمعالجة هذا التأثير الضارّ للتكنولوجيا الرقميّة على المجتمعات، من خلال تعزيز التعاون وعقد الشراكات في مواجهة هذا السيل من المعلومات المُضلِّلة، مع الحفاظ على مزاياها في نشر الأخبار الدقيقة وتعزيز حريّة التعبير عن الرأي.

كما يمكننا، أيضاً، العمل على صياغة إطار رقميّ أكثر مصداقيّة، يكون قادرًا على القضاء على الجهات الخبيثة وتعزيز دور الصحافة الدقيقة القائمة على الحلول، مثلما تفعل أكاديميّة DW للدراسات الدوليّة في الإعلام؛ حتى يتسنّى للأخبار تقديم سبل بنّاءة للتفاهم، وحتى يتمكّن من يسلك "المتاهة" من إدراك حقيقة ما يحدث، وفي الوقت ذاته يتيقّن أنها مُجرّد "متاهة"، وفي أغلب الأحيان، سيتعلم كيف يصل إلى هدفه دون أن يفقد صوابه.

وعندما تكون هناك الكثير من الأمور التي تحول دون الوصول إلى الحقيقة، فلن تتوفّر لدينا طرق مختصَرَة للوصول إلى التربية الإعلاميّة والمعلوماتيّة، كما أنّ تكلفة غياب الوعي اللازم كبيرة جدًا لدرجة لا يمكن تجاهلها.

ويُعدُّ الاستثمار في التربية الإعلاميّة والمعلوماتيّة استثمارًا في الاستقرار، والمساواة الاجتماعيّة، والسلام، والتفاهم المشترك، وكذلك تعزيز القيم الإنسانيّة التي تفتح آفاقًا جديدة للنقاشات الصحيّة مع الحفاظ على أمن مجتمعاتنا وسلامتها.

 

شكرًا جزيلًا.

 

yes